فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}.
هذه الآية الكريمة تدل على أن أهل النار لا ينطقون ولا يعتذرون وقد جاءت آيات تدل على أنهم ينطقون ويعتذرون.
كقوله تعالى: {وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.
وقوله: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}.
وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً}.
وقوله: {تَالله إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} وقوله: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} إلى غير ذلك من الآيات.
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أن القيامة مواطن ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون.
الثاني: أنهم لا ينطقون بما لهم فيه فائدة ومالا فائدة فيه كالعدم.
الثالث: أنهم بعد أن يقول الله لهم {اخسئوا فيها ولا تكلمون} ينقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق.
قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقول عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ}. وهذا الوجه الثالث راجع للوجه الأول. اهـ.

.تفسير الآيات (41- 50):

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حديث بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الواقع بعد الفصل قرار كل في داره، وكان قد بدأ بالمكذبين لأن التحذير في السورة أعظم ففصلهم عن المصدقين فقال: انطلقوا- إلى آخره، ثنى بأضدادهم الفريق الناجي المشار إليه في آخر الإنسان بقوله تعالى: {يدخل من يشاء في رحمته} [الإنسان: 31] فقال مؤكداً لأجل تكذيب الكفار بتلك الدار وبأن يكون المؤمنون أسعد منهم: {إن المتقين} أي الذين كانوا يجعلون بينهم وبين كل ما يغضب الله وقاية مما يرضيه لعراقتهم في هذا الوصف يوم القيامة {في ظلال} هي في الحقيقة الظلال لا كما تقدم من ظل الدخان، ولا يشبهها أعلى ظل في الدنيا ولا أحسنه إلا بالاسم، ودل على أنها على حقيقتها بقوله: {وعيون} لأنها تكون عنها الرياض والأشجار الكبار كما دل على أن ذلك الظل المتشعب للتهكم بما ذكر بعده من أوصاف النار، فهذه العيون تبرد الباطن وتنبت الأشجار المظلة كما أن اللهب يحرّ الظاهر والباطن ويهلك ما قرب منه من شجر وغيره فلا يبقى ولا يذر.
ولما ذكر العيون، أتبعها ما ينشأ عنها فقال دالاً على أن عيشهم كله لذة: {وفواكه} ولما كان يوجد في فواكه الدنيا الدون، قال دالاً على أن عيشهم كله لذة وأنه ليس هناك دون: {مما يشتهون} أي الرغبة.
ولما فهم من التعبير ب (في) أنهم متمكنون من هذا جميعه تمكن المظروف من ظرفه، قال منبهاً على أنه أريد بالفاكهة جميع المآكل، وإنما عبر بها إعلاماً بأن كل أكل فيها تفكه ليس منه شيء لجلب نفع غير اللذة ولا دفع ضر: {كلوا} أي مقولاً لهم: تناولوا جميع المآكل على وجه التكفه والتلذذ لا لحفظ الصحة فإنها حاصلة بدونه {واشربوا} أي من جميع المشارب كذلك فإن عيونها ليست من الماء خاصة بل من كل شراب أكلاً وشرباً {هنيئاً} ليس في شيء من ذلك توقع ضر، وزاد في نعيمهم بأن جعل ذلك عوضاً فقال: {بما كنتم} أي بجبلاتكم التي جبلتكم عليها {تعملون} أي في الدنيا من الأعمال الصالحة المبنية على أساس العلم الذي أفاد التصديق بالجنة فأوجب دخولها كما أوجب تكذيب المجرمين بالنار دخولهم إياها وعذابهم بها، وتكذيبهم بالجنة طردهم عنها وحرمانهم لنعيمها جزاء وفاقاً.
ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا لناس معينين في زمن مخصوص- قال معلماً بالتعميم مؤكداً رداً على من ينكر: {إنا} أي بما لنا من العظمة {كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي كل من كان عريقاً في وصف الإحسان لسنا كملوك الدنيا، يعوقهم عن الإحسان إلى بعض المحسنين عندهم بما يرونه جزاء لهم بعضُ أهل مملكتهم لما لهم من الأهوية ولملوكهم من الضعف.
ولما كان هذا النعيم عذاباً عظيماً على من لا يناله قال: {ويل يومئذ} أي إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين {للمكذبين} أي الذين يكذبون بأن الجبال تنسف فتكون الأرض كلها سهلة دمثة مستوية لا عوج فيها أصلاً صالح للعيون والاشجار والتبسط في أرجائها كيفما يريد صاحبها ويختار.
ولما ذكر نعيم أهل الجنة الذي لا ينقضي لأن لهم غاية المكنة فيه، وكان ذلك آجلاً، وكان المكذبون في اتساع في الدنيا، وتقدم قوله تعالى: {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} [الطور: 7] وكان الشقاء متى وقع بعد نعيم نسخه وعد النعيم- ولو كان كثيراً طويلاً- قليلاً، قال نتيجة لجواب القسم ضد ما يقال للمتقين تسلية لهم وتحزيناً للمكذبين بناء على ما تقديره: إن المكذبين في هذه الدنيا في استدراج وغرور، ويقول لهم لسان الحال المعرب عن أحوالهم في المآل توبيخاً وتهديداً: {كلوا} أي أيها المكذبون في هذه الدنيا {وتمتعوا} أي كذلك بمثل الجيفة، فإن المتاع من أسمائها كما مر غير مرة عن أهل اللغة {قليلاً} أي وإن امتد زمنه فإنه زائل مع قصر مدته في مدة الآخرة، ولا يؤثر ذلك على الباقي النفيس إلا خسيس الهمة، قال الرازي، وقال بعضهم: التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
ولما أحلهم هذا المحل الخبيث، وكان التقدير: فإنه لابد من وقوع العذاب بكم يوم الفصل، علل ذلك بقوله مؤكداً لأنهم ينكرون وصفهم بذلك: {إنكم مجرمون} أي عريقون في قطع كل ما أراد الله به أن يوصل، فلا جائز أن تعاملوا معاملة المحسنين، فلذلك كانت نتيجة هذا {ويل يومئذ} أي إذ تعذبون بأجرامكم {للمكذبين} أي بوصول الرسل إلى وقتها المعلوم الذي كانت تتوعد به المجرمين في الدنيا حيث كذبوهم لأجل تمتعهم هذا القليل الكدر، وعرضوا أنفسهم للعذاب الدائم المستمر.
ولما كان التقدير: فإنهم كانوا في دار العمل إذا قيل لهم آمنوا لا يؤمنوا، عطف عليه قوله: {وإذا قيل لهم} أي لهؤلاء المجرمين من أي قائل كان {اركعوا} أي صلوا الصلاة التي فيها الركوع، وأطلقه عليها تسمية لها باسم جزء منها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة، ولأنه خاص بصلاة المسلمين، ولأن بعض العرب نفر عن الدين من أجله، وقال: لا أجبي لأن فيه- زعم- إبرازاً للاست فيكون ذلك مسبة، وكذلك السجود، قال في القاموس: جبى تجبئة: وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبئة أن تقوم قيام الركوع {لا يركعون} أي لا يخضعون ولا يوجدون الصلاة فلذلك كان وعيدهم، وفيه دلالة على أن الأمر للوجوب ليستحق تاركه العذاب وعلى أن الكفار مخاطبون بالفروع {ويل يومئذ} أي إذ يكون الفصل {للمكذبين} أي بذلك الذي تقدم في هذه السورة أو بشيء منه أو بغيره مما جاءت به الرسل، وقد كررت هذه الجملة بعدد أجزاء طرف القسم أو أجزاء الجواب لتكون كل جملة منها وعيداً على التكذيب بواحد من تلك الأجزاء، وتكون هذه الجملة العاشرة مؤكدة لتلك التسع، وتكملة لعدها ومعناها، ومعلمة بأن الويل لهم دائماً من غير انقضاء كما أن الواحد لا انقضاء له.
ولما أعلم هذا أن لهم الويل دائماً، ذكر أن سببه عدم الإيمان بالقرآن وأن من لم يؤمن بالقرآن لم يؤمن بشيء أبداً، فقال مسبباً عن معنى الكلام: {فبأيّ حديث} أي ذكر يتجدد نزوله على المرسل به في كل وقت تدعو إليه حاجة {بعده} أي بعد هذا القرآن الذي هو شاهد لنفسه عنه بصحة النسبة إلى الله تعالى من جهة ما حاز من البلاغة في تراكيبه بالنسبة إلى كل جملة وبالنسبة إلى نظم الجمل بعضها مع بعض، وبالإخبار بالمغيبات والحمل على المعالي والتنبيه على الحكم وغير ذلك من بحور العلم ورياض الفنون، فالله باعتبار ذلك هو الشاهد بأنه كلامه {يؤمنون} أي يجددون الإيمان بسببه بكل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي الله شاهد بأنه كلامه بما اشتمل عليه بعد إعجازه من الدلائل الواضحة، والمعاني الشريفة الصالحة، والنظوم الملائمة للطبع والرقائق المرققة لكل قلب، والبشائر المشوقة لكل سمع، فمن لم يؤمن به لم يؤمن بحديث غيره، فإنه لا شيء يقاربه ولا يدانيه، فكيف بأن يدعي شيء يباريه أو يراقيه، ومثل هذا إنما يقال عند مقاربة اليأس من الموعوظ والعادة قاضية بحلول العذاب إذ ذاك وإنزال البأس، فهو من أعظم أنواع التهديد، فقد رجع آخرها على أولها في وعيد المكذبين، وانطبق أولها على آخرها في إخزاء المجرمين- والله الهادي للصواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)}
اعلم أن هذا هو النوع الثامن: من أنواع تهديد الكفار وتعذيبهم، وذلك لأن الخصومة الشديدة والنفرة العظيمة كانت في الدنيا قائمة بين الكفار والمؤمنين، فصارت تلك النفرة بحيث أن الموت كان أسهل على الكافر من أن يرى للمؤمن دولة وقوة، فلما بين الله تعالى في هذه السورة اجتماع أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار، بين في هذه الآية اجتماع أنواع السعادة والكرامة في حق المؤمن، حتى أن الكافر حال ما يرى نفسه في غاية الذل والهوان والخزي والخسران، ويرى خصمه في نهاية العز والكرامة والرفعة والمنقبة، تتضاعف حسرته وتتزايد غمومه وهمومه، وهذا أيضاً من جنس العذاب الروحاني، فلهذا قال في هذه الآية: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال مقاتل والكلبي: المراد من قوله: {إِنَّ المتقين} الذين يتقون الشرك بالله، وأقول هذا القول عندي هو الصحيح الذي لا معدل عنه، ويدل عليه وجوه أحدها: أن المتقي عن الشرك يصدق عليه أنه متق، لأن المتقي عن الشرك ماهية مركبة من قيدين أحدهما: أنه متق والثاني: خصوص كونه عن الشرك، ومتى وجد المركب، فقد وجد كل واحد من مفرداته لا محالة، فثبت أن كل من صدق عليه أنه متق عن الشرك، فقد صدق عليه أنه متق أقصى ما في الباب، أن يقال: هذه الآية على هذا التقدير تتناول كل من كان متقياً لأي شيء كان، إلا أنا نقول كونه كذلك لا يقدح فيما قلناه، لأنه خص كل من لم يكن متقياً عن جميع أنواع الكفر فيبقى فيما عداه حجة لأن العام الذي دخل التخصيص يبقى حجة فيما عداه وثانيها: أن هذه السورة من أولها إلى آخرها مرتبة في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم عليه، فهذه الآية يجب أن تكون مذكورة لهذا الغرض، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها، والنظم إنما يبقى لو كان هذا الوعد حاصلاً للمؤمنين بسبب إيمانهم، لأنه لما تقدم وعيد الكافر بسبب كفره، وجب أن يقرن ذلك بوعد المؤمن بسبب إيمانه حتى يصير ذلك سبباً في الزجر عن الكفر، فأما أن يقرن به وعد المؤمن بسبب طاعته، فذلك غير لائق بهذا النظم والترتيب، فثبت بما ذكرنا أن المراد من قوله: {إِنَّ المتقين} كل من كان متقياً عن الشرك والكفر وثالثها: أن حمل اللفظ على المسمى الكامل أولى، وأكمل أنواع التقوى هو التقوى عن الكفر والشرك، فكان حمل اللفظ عليه أولى.
المسألة الثانية:
أنه تعالى لما بعث الكفار إلى ظل ذي ثلاث شعب أعد في مقابلته للمؤمنين ثلاثة أنواع من النعمة أولها: قوله: {إِنَّ المتقين في ظلال وَعُيُونٍ} كأنه قيل: ظلالهم ما كانت ظليلة، وما كانت مغنية عن اللهب والعطش أما المتقون فظلالهم ظليلة، وفيها عيون عذبة مغنية لهم عن العطش وحاجزة بينهم وبين اللهب ومعهم الفواكه التي يشتهونها ويتمنونها، ولما قال للكفار: {انطلقوا إلى ظِلّ ذِى ثلاث شُعَبٍ} قال للمتقين: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً} فإما أن يكون ذلك الإذن من جهة الله تعالى لا بواسطة، وما أعظمها، أو من جهة الملائكة على وجه الإكرام، ومعنى {هَنِيئَاً} أي خالص اللذة لا يشوبه سقم ولا تنغيص.
المسألة الثالثة:
اختلف العلماء في أن قوله: {كُلُواْ واشربوا} أمر أو إذن قال أبو هاشم: هو أمر، وأراد الله منهم الأكل والشرب، لأن سرورهم يعظم بذلك، وإذا علموا أن الله أراده منهم جزاء على عملهم فكما يزيد إجلالهم وإعظامهم بذلك، فكذلك يريد نفس الأكل والشرب معهم، وقال أبو علي: ذلك ليس بأمر، وإنما يريد بقوله: على وجه الإكرام، لأن الأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف، وليس هذا صفة الآخرة.
المسألة الرابعة:
تمسك من قال العمل يوجب الثواب بالباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا ضعيف لأن الباء للإضافة، ولما جعل الله تعالى ذلك العمل علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك العمل كالآلة الموصلة إلى تحصيل ذلك الثواب، وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} المقصود منه أن يذكر الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة، ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات، وإذا لم يفعلوا ذلك لا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه.
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)}
اعلم أن هذا هو النوع التاسع: من أنواع تخويف الكفار، كأنه تعالى يقول للكافر حال كونه في الدنيا إنك إنما عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها ولهذه المحن التي شرحناها لأجل حبك للدنيا ورغبتك في طيباتها وشهواتها إلا أن هذه الطيبات قليلة بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة والمشتغل بتحصيلها يجري مجرى لقمة واحدة من الحلواء، وفيها السم المهلك فإنه يقال لمن يريد أكلها ولا يتركها بسبب نصيحة الناصحين وتذكير المذكرين: كل هذا وويل لك منه بعد هذا فإنك من الهالكين بسببه، وهذا وإن كان في اللفظ أمراً إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم ومنع في غاية المبالغة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)}
اعلم أن هذا هو النوع العاشر: من أنواع تخويف الكفار كأنه قيل لهم: هب أنكم تحبون الدنيا ولذاتها ولكن لا تعرضوا بالكلية عن خدمة خالقكم بل تواضعوا له فإنكم إن آمنتم ثم ضممتم إليه طلب اللذات وأنواع المعاصي حصل لكم رجاء الخلاص عن عذاب جهنم والفوز بالثواب، كما قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذلك ولا ينقادون لطاعته، ويبقون مصرين على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب العظيم، فلهذا قال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} أي الويل لمن يكذب هؤلاء الأنبياء الذين يرشدونهم إلى هذه المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة.
وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} المراد به الصلاة، وهذا ظاهر لأن الركوع من أركانها، فبين تعالى أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، وأنهم حال كفرهم كما يستحقون الذم والعقاب بترك الإيمان، فكذلك يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة لأن الله تعالى ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة، وقال قوم آخرون: المراد بالركوع الخضوع والخشوع لله تعالى، وأن لا يعبد سواه.
المسألة الثانية:
القائلون بأن الأمر للوجوب استدلوا بهذه الآية، لأنه تعالى ذمهم بمجرد ترك المأمور به، وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب، فإن قيل: إنهم كفار فلكفرهم ذمهم؟ قلنا: إنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه كثيرة، إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لأنهم تركوا المأمور به، فعلمنا أن ترك المأمور به غير جائز.
{فَبِأَيِّ حديث بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}
اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بالوجوه العشرة التي شرحناها، وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع تجليها ووضوحها فبأي حديث بعده يؤمنون قال القاضي: هذه الآية تدل على أن القرآن محدث لأنه تعالى وصفه بأنه حديث، والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً، وأجاب الأصحاب أن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاغ في أنها محدثة، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين. اهـ.